فصل: استثناءات لا تنقض أصل البراءة‏:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الولاء والبراء في الإسلام (نسخة منقحة)



.رابعًا‏: تحريم اتخاذهم بطانة وحاشية‏:

الأمر الرابع‏: الذي نهانا الله عنه تجاه الكافرين واخبرنا أنه من جملة موالاتهم هو اتخاذهم بطانة أي وزراء وعمالا في الأمور الحساسة من أمور الدولة والحكومة الإسلامية‏.‏ وفي هذا يقول سبحانه وتعالى‏: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون} [آل عمران‏: 118‏]‏‏.‏
ولهذا لم يتخذ الرسول والخلفاء الراشدون غير المسلمين في أعمال الدول الهامة كقيادة الجيوش‏.‏ والأشراف على بيت المال، والجنود والشرطة وسائر الأمور التي فيها اطلاع على عورات المسلمين ومعرفة بأحوالهم‏.‏ ولذلك كانت الدولة الإسلامية في عافية وقوة‏.‏ ولكن بعد أن اتخذ الخلفاء الكفار بطانة لهم ووزراء تغير الأمر وبدأت أحوال المسلمين إلى زوال‏.‏
عرفنا أن البراءة من الكافرين تعني أن لا نتنازل لهم عن شيء من الدين، وأن لا نحبهم فنحب ما هم عليه من كفر، وأن لا نساعدهم على مسلم قط، وأن لا نتخذ منهم بطانةً وأعوانًا في أماكن يطلعون منها على أسرار المسلمين وينفذون من خلالها إلى إضعافهم وتفشيلهم‏.‏ والذين يأخذون أصول البراءة على إطلاقها دون تفصيل ومعرفة بالاستثناءات قد يقعون في كثير من الظلم والحرام‏.‏
ولذلك سنفصل- بحول الله- فيما يأتي هذه الاستثناءات والأمور التي لا تخالف ولا تناقض أصل البراءة‏:

.استثناءات لا تنقض أصل البراءة‏:

.أولًا‏: اللين عند عرض الدعوة‏:

لا تعني البراءة من الكافرين حجب دعوة الإسلام عنهم وتركهم لما هم فيه من ضلال‏.‏ بل يحتم الإسلام على أهله دعوة الناس إلى الخير وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر والحرص على هدايتهم والرغبة الأكيدة في تحولهم إلى الإسلام ولما كان هذا لا يأتي إلا بالدخول إلى النفوس من مداخلها واستجلاب رضاها وراحتها فإن الإسلام جعل سبيل الدعوة مع الكفار وغيرهم هو الحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالحسنى كما قال تعالى‏: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو اعلم بالمهتدين} [النحل‏: 125‏]‏‏.‏‏.‏ وذلك أن النفوس الشاردة، والقلوب القاسية لا تعود إلى الإسلام ولا تلين إلا بالملاينة والملاطفة وإظهار العطف والشفقة والحرص‏.‏
ولذلك قال تعالى لموسى وهارون عندما أرسلهما إلى فرعون‏: {فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى} [طه‏: 44‏]‏ وهكذا صنع موسى مع فرعون لاطفه في أول لقاء له وشرح له دعوته وجادله بالحسنى ووكل أمره لله بعد أن أعلن فرعون عداوته له‏.‏ وهكذا أيضًا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المشركين والكافرين والمعاندين ممن عرض عليهم دعوته سواء كانوا من العرب المشركين أو اليهود أو النصارى جادلهم رسول الله بالحسنى ودعاهم باللين والبيان وصبر معهم صبرًا طويلًا ولم يثبت قط أنه أهانهم أو أغلظ عليهم عند عرض الدعوة أبدًا وذلك امتثالًا لقوله تعالى‏: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم} [العنكبوت‏: 46‏]‏ وقوله‏: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة} [النحل‏: 125‏]‏، وقوله‏: {واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرًا جميلًا} [المزمل‏: 10‏]‏ وقوله‏: {لست عليهم بمسيطر} [الغاشية‏: 22‏]‏ وقوله‏: {فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون} [الشعراء‏: 216‏]‏ ولم يقل‏: فأغلظ لهم القول وسبهم واشتمهم‏.‏
وهذه الآيات كلها ومثلها بالمئات في القرآن الداعية إلى الحكمة والصفح الجميل عن المكذبين لا تناقض قوله تعالى‏: {يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير} [التوبة‏: 73‏]‏، وذلك أن الغلظة المأمور بها هنا إنما هي الغلظة في القتال فقط، وهذا مقام يحتاج إلى شدة وغلظة بخلاف مقام الدعوة، ولكل مقام مقال، كما يقولون‏.‏ وذلك بدليل قوله تعالى‏: {يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة} [التوبة‏: 123‏]‏‏.‏ فهذه الغلظة هنا تفسر الغلظة في الآية الأخرى وأن ذلك إنما يكون في مقـام القتـال والمقاتل إن لم يتصف بالشجاعة والقوة والغلظة لمن يقاتلونه لا ينتصر‏.‏ فلو رحمه أو لاينه أو أشفق عليه فإنه لا يقتله‏.‏ ومما يوضح ذلك جليًّا ما صنعه الرسول صلى الله عليه وسلم مع المشركين في موقعة بدر، فقد رص رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفوف ودعا المؤمنين إلى الشجاعة في القتال وقال‏: «‏والله لا يقتل رجل منكم اليوم مقبل غير مدبر إلا دخل الجنة‏»‏ [‏رواه أبو إسحاق‏.‏ انظر البداية والنهاية 3/ 276- 277‏]‏‏.‏ وفي هذا غاية التحريض على بذل النفس ولكنه بعد المعركة وهزيمة الكفار وأسر سبعين منهم لاطف الأسرى ولاينهم وداوى جراحاتهم وأمر الصحابة بإكرامهم فقال صلى الله عليه وسلم: «‏أكرموا الأسرى‏»‏ [‏الترمذي وأبو داود‏]‏، حتى أن الصحابة كانوا يؤثرونهم بالطعام الجيد على أنفسهم وأنزل القرآن في ملاطفة الأسرى ودعوتهم للإسلام فقال تعالى‏: {يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرًا يؤتكم خيرًا مما اخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم} [الأنفال‏: 70‏]‏، وهذا غاية الملاينة والملاطفة في دعوتهم إلى الإسلام وأن الله سيعوضهم عن الفدية التي أخذت منهم إن هم أذعنوا للإسلام وآبوا إلى الله ورسوله‏.‏ وبهذا يظهر لنا جليا التفريق بين مقام القتال ومقام الدعوة‏.‏
فمقام الدعوة هو مقام اللين والملاطفة وتخير الألفاظ وإحسان القول رغبة في تطميع الكافر في الدين، واستمالة لقلبه إليه‏.‏
والجاهلون بهذا لا يميزون بين مقام ومقام ويظنون أن البراءة من الكفار تعني سبهم وشتمهم وإغلاظ القول لهم في مقام الدعوة وهذا غاية الجهل والحماقة‏.‏

.ثانيًا‏: حل الزواج بالكتابية وأكل ذبيحة الكتابي‏:

لا شك أن الكتابي يهوديًّا كان أو نصرانيًّا هو ممن حكم الله عليهم بالكفر والخلود في النار إذا سمع بالإسلام ولم يدخل فيه كما قال تعالى‏: ‏ {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم} [المائدة‏: 72- 73‏]‏‏.‏
وهذا نص واضح في كفرهم لمقالتهم الشنيعة في الله ولا شك أيضًا أنهم لا يخرجون من مسمى أهل الكتاب بهذه المقالة فقد ناداهم الله مرارا بهذا الاسم مع وجود معتقدهم هذا فيهم كقوله تعالى‏: ‏ {يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلًا} [النساء‏: 171‏]‏، فقد ناداهم الله بمسمى أهل الكتاب مع مقالتهم هذه‏.‏‏.‏ وبالرغم من ذلك فقد أباح الله للمسلم أن يأكل مما ذبحه الكتابي وأن يتزوج المرأة الكتابية وهذا مجمع عليه بين المسلمين ويشهد لهذا قوله تعالى‏: ‏ {اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهم محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين} [المائدة‏: 5‏]‏ وأنت ترى هنا أن الله قد جعل طعام أهل الكتاب من الطيبات المباحة والمقصود بطعامهم ذبيحتهم وهذا لا خلاف فيه أيضًا، وكذلك جعل الله المحصنة الكتابية أي العفيفة التي لا ترضى الزنا مباحًا الزواج بها كالعفيفة المسلمة أيضا‏.‏ وبهذا تعلم أن الأكل من طعام اليهود والنصارى لا ينافي ولا يعارض البراءة منهم، بل هذا مما استثنى، وكذلك الزواج من نسائهم‏.‏ ومعلوم انه يحصل مع الزواج من نسائهم كثير من المودة والمحبة الزوجية الفطرية التي تقوم بين الأزواج عادة كما قال تعالى‏: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} [الروم‏: 21‏]‏ ولا شك أن المودة هنا مستثناة من النهي عن المودة للكفار المنصوص عليها في مثل قوله تعالى‏: {لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله} [المجادلة‏: 22‏]‏‏.‏‏.‏ الآية‏.‏ فمودة الزوج المسلم لزوجته الكتابية مخرج من ذلك ولا شك لأنه من المباح الذي لا يؤاخذ الله عليه ولا شك إن هذه المودة المباحة هي المودة الفطرية التي ينشئها الله في قلب الزوج لزوجته والتي لا يجوز معها اطلاع هذه الزوجة على عورات المسلمين أو إعانتها أو إعانة قومها على الإسلام وأهله‏.‏ ومعلوم كذلك إن الزواج بالكتابية يستلزم أيضا السماح لها بالبقاء على دينها إن شاءت وعدم الوقوف في وجه أدائها لشعائر هذا لدين إن أرادت وان لا تجبر على الإسلام ولا تدخل فيه إلا برضاها وهذا من المعلوم من الدين ضرورة لا يماري فيه إلا جاهل‏.‏
وكذلك الأمر بالنسبة لأكل طعام أهل الكتاب لا شك انه لا يمنع أن يأكله المسلم هديةً أو بيعًا وقد أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشاة التي أهدتها له اليهودية في خيبر‏.‏ وأكل منها أصحابه، ومعلوم أن الإهداء والبيع ونحو ذلك قد يحصل به تعارف ونوع صداقة ومودة وكل ذلك لا ينافي ولا يناقض الأصل الذي شرحناه آنفا وهو البراءة من الكفار‏.‏

.ثالثا‏: المجاملة والإحسان والدعاء له بالهداية‏:

‏.‏‏.‏ ومن الأمور التي لا تنقض أصل البراءة من الكفار أيضا مجاملة الكافر المعاهد والذمي والمستأمن والإحسان إليه والأصل في هذا هو قوله تعالى‏: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين} [الممتحنة: 8‏]‏ ويدخل في البر بهم عيادة مرضاهم، واتباع جنائزهم، وقبول هداياهم والإهداء لهم، وتهنئتهم في الأفراح، وتعزيتهم في الأحزان ومساعدة فقرائهم والمحتاجين منهم وزيارتهم في منازلهم، وقبول دعوتهم، والدعاء لهم بالهداية، ونحو ذلك وهذا مما أجمع عليه المسلمون ولا مخالف لذلك ممن لهم رأي يعتد به‏.‏
ويدل لذلك ما يأتي‏:-